واسمه
عندما كان ببلاد فارس روزبه وأصله من منطقة كازرون في جنوب إيران. هو
صحابي جليل دخل الإسلام بعد بحث وتقصي عن الحقيقة، وكان أحد المميزين في
بلاد فارس بلده الأصلي. دان بالمجوسية ولم يقتنع بها، وترك بلده فارس بحثا
عن الحقيقة فرحل إلى الشام وألتقى بلرهبان والقساوسة ولكن أفكارهم
ودياناتهم لم تقنعه أو تشفي تعطشه للإيمان. واستمر متنقلا حتى وصل إلى
الجزيرة العربية فالمدينة والتقى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم،
فأعلن إسلامه.
سلمان والشعر
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وقصة البيت هذا مؤثرة جداً، وتدل على قوة ايمان الصحابي لما اجتمع مع نفر
من ألاعراب فسألوه عن نسبه، حيث يقول هذا: أنا قرشي، وذاك يقول: أنا
قيسي، وذاك يقول: أنا تميمي، فقاله
وقد
اشتهر بكثرة العبادة، وكثرة مجالسته للنبي (، فلم يفارقه إلا لحاجة، وكان
النبي ( يحبه حبًّا شديدًا، وسماه أبو هريرة صاحب الكتابين (يعني الإنجيل
والفرقان)، وسمَّاه علي بن أبي طالب لقمان الحكيم، وقد آخى النبي ( بينه
وبين أبي الدرداء.
يقول سلمان -رضي الله
عنه- عن نفسه: (كنت رجلاً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ، وكان أبي
دُهْقانها (رئيسها)، وكنت من أحب عباد الله إليه، وقد اجتهدت في المجوسية
حتى كنت قاطن النار (ملازمها) الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
وكان لأبي ضَيْعَة (أرض)، أرسلني إليها يومًا فخرجت فمررت بكنيسة
للنصارى، فسمعتهم يصلُّون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت
من صلاتهم، وقلت لنفسي: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه فما برحتهم
(تركتهم) حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث
في أثري من يبحث عني، وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل
دينهم، فقالوا: في الشام، وقلت لأبي حين عُدت إليه: إني مررت على قوم
يُصلّون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا،
فحاورني وحاورته، ثم جعل في رجلي حديدًا وحبسني.
وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركب
من الشام أن يخبروني قبل عودتهم إليها؛ لأرحل معهم، وقد فعلوا فحطمت
الحديد، وخرجت، وانطلقت معهم إلى الشام، وهناك سألت عن عالمهم فقيل لي: هو
الأسقف (رئيس من رؤساء النصارى) صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري،
فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم، وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، إذ كان
يجمع الصدقات من الناس ليوزعها على الفقراء، ولكنه كان يكتنـزها لنفسه
فلما مات جاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيرًا منه،
ولا أعظم رغبة في الآخرة وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة، فأحببته
حبًّا ما علمت أنني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضره قدره (الموت)، قلت
له: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، فبم تأمرني؟ وإلى مَنْ توصى بي؟ قال:
أي بني، ما أعرف من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلاً بالموصل.
فلما توفي أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن
أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته فدلني على عابد في نصيبين، فأتيته وأخبرته
خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني
أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه وأقمت معه، واصطنعت
لمعاشي بقرات وغنيمات، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي بي؟ فقال
لي: يا بني ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد
أظلك (أتى عليك) زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفًا، يهاجر إلى أرض ذات
نخل بين حرتين، فإن استطعت أن تخلص (تذهب) إليه فافعل، وإن له آيات لا
تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا
رأيته عرفته.
ومرَّ بي ركب ذات يوم،
فسألتهم عن بلادهم فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: أعطيكم بقراتي
هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم. واصطحبوني معهم حتى
قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني وباعوني إلى رجل من يهود، وأقمت عنده
حتى قدم عليه يومًا رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى
قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي
وُصِفَتْ لي.
وأقمت معه أعمل له في
نخله، وإني لفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها، إذ أقبل رجل من بني
عمه فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة (الأوس والخزرج)، إنهم ليقاصفون
(يجتمعون) على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن
قالها حتى أخذتني العُرَوَاءُ (ريح باردة)، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط
فوق صاحبي، ثم نزلت سريعًا أقول ما هذا الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكزني لكزة
شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فأقبلت على عملي.
ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله ( بقُباء، فدخلت
عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي
طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به،
ثم وضعته، فقال الرسول ( لأصحابه: كلوا باسم الله، وأمسك هو فلم يبسط إليه
يدًا، فقلت في نفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة.
ثم رجعت، وعدت إلى الرسول ( في الغداة أحمل طعامًا، وقلت له عليه السلام:
إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية،
ووضعته بين يده، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه
والله الثانية، إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته
فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتان (الشملة: كساء
من الصوف) مؤتزرًا بواحدة، ومرتديًا الأخرى، فسلّمت عليه، ثم عدلت لأنظر
أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فإذا العلامة بين
كتفيه خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي.
ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته كما أحدثكم الآن،
ثم أسلمت، وحال الرقُّ بيني وبين شهود (حضور) بدر وأحد، وفي ذات يوم قال
الرسول (: (كاتب سيدك حتى يعتقك)، فكاتبته، وأمر الرسول ( الصحابة كي
يعاونوني وحرر الله رقبتي، وعشت حُرًّا مسلمًا، وشهدت مع رسول الله ( غزوة
الخندق والمشاهد كلها. [أحمد والطبراني].
غزوة الخندق
في غزوة الخندق جاءت جيوش الكفر إلى المدينة مقاتلة تحت قيادة أبي سفيان،
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب، وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في
الأمر، فتقدم سلمان وألقى من فوق هضبة عالية نظرة فاحصة على المدينة،
فوجدها محصنة بالجبال والصخور محيطة بها، بيد أن هناك فجوة واسعة يستطيع
الأعداء اقتحامها بسهولة، وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل
الحرب وخدعها، فتقدم من الرسول واقترح أن يتم حفر خندق يغطي جميع المنطقة
المكشوفة حول المدينة، وبالفعل بدأ المسلمون في حفر هذا الخندق الذي صعق
قريش حين رأته، وعجزت عن اقتحام المدينة، وأرسل الله عليهم ريحا صرصرا
عاتية لم يستطيعوا معها الا الرحيل والعودة إلى ديارهم خائبين. وخلال حفر
الخندق اعترضت معاول المسلمين صخرة عاتية لم يستطيعوا فلقها، فذهب سلمان
إلى الرسول مستأذنا بتغيير مسار الحفر ليتجنبوا هذه الصخرة، فأتى الرسول
صلى الله عليه وسلم مع سلمان وأخذ المعول بيديه، وسمى الله وهوى على
الصخرة فاذا بها تنفلق ويخرج منها وهجا عاليا مضيئا وهتف الرسول (ص)
مكبرا: " الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء الله لي منها قصور
الحيرة، ومدائن كسرى، وإن أمتي ظاهرة عليها " ثم رفع المعول ثانية وهوى
على الصخرة، فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة، وهتف الرسول (ص): " الله أكبر
أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لي منها قصور الحمراء، وإن أمتي ظاهرة
عليها " ثم ضرب ضربته الثالثة فاستسلمت الصخرة وأضاء برقها الشديد، وهلل
الرسول والمسلمون معه وأنبأهم أنه يبصر قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن
الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون هذا ما وعدنا الله
ورسوله، وصدق الله ورسوله.
ووقف الأنصار
يومها يقولون: سلمان منا، ووقف المهاجرون يقولون: بل سلمان منا، وعندها
ناداهم الرسول ( قائلاً: (سلمان منا آل البيت) [ابن سعد].
أقام أياما مع أبو الدرداء في دار واحدة، وكان أبو الدرداء يقوم الليل
ويصوم النهار. وكان سلمان يرى مبالغته في هذا فحاول أن يثنيه عن صومه هذا،
فقال له أبو الدرداء: أتمنعني أن أصوم لربي وأصلي له ؟ فأجاب سلمان: إن
لعينيك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا. صم وافطر، وصلّ ونام. فبلغ ذلك
الرسول فقال: "لقد أُشْبِعَ سلمان علما.
في خلافة عمر بن الخطاب جاء سلمان إلى المدينة زائرا، فجمع عمر الصحابة
وقال لهم هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان. وخرج بهم لاستقباله عند مشارف
المدينة وكان علي بن أبي طالب يلقبه بلقمان الحكيم، وسئل عنه بعد موته
فقال ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ أوتي
العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا
ينزف.
ومما يحكى عن زهده أنه كان أميرًا
على المدائن في خلافة الفاروق عمر، وكان عطاؤه من بيت المال خمسة آلاف
دينار، لا ينال منه درهمًا واحدًا، ويتصدق به على الفقراء والمحتاجين،
ويقول: (أشتري خوصًا بدرهم فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهمًا
فيه، وأنفق درهمًا على عيالي، وأتصدق بالثالث، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني
عن ذلك ما انتهيتُ) [أبو نعيم].
ويروى أنه
كان أميرًا على سرية، فمرَّ عليه فتية من الأعداء وهو يركب حمارًا،
ورجلاه تتدليان من عليه، وعليه ثياب بسيطة مهلهلة، فسخروا منه، وقالوا
للمسلمين في سخرية وازدراء: هذا أميركم؟ فقيل لسلمان: يا أبا عبد الله ألا
ترى هؤلاء وما يقولون؟ فقال سلمان: دعهم فإن الخير والشر فيما بعد اليوم.
[ابن سعد].
ومما رُوي في تواضعه أنه كان سائرًا في طريق، فناداه رجل قادم من الشام
ليحمل عن متاعه، فحمل سلمان متاع الرجل، وفي الطريق قابل جماعة من الناس
فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام، وأسرع أحدهم نحوه ليحمل
عنه قائلا: عنك أيها الأمير، فعلم الشامي أنه سلمان الفارسي أمير المدائن،
فأَسْقَطَ ما كان في يديه، واقترب ينتزع الحمل، ولكن سلمان هزَّ رأسه
رافضًا وهو يقول: لا، حتى أبلغك منزلك. [ابن سعد].
ودخل صاحب له بيته، فإذا هو يعجن فسأله: أين الخادم؟ فقال سلمان: لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين.
وحين أراد سلمان بناء بيت له سأل البنَّاء: كيف ستبنيه؟ وكان البنَّاء
ذكيًّا يعرف زهد سلمان وورعه، فأجابه قائلاً: لا تخف، إنها بناية تستظل بها
من الحر، وتسكن فيها من البرد، إذا وقفت فيها أصابت رأسك، وإذا اضطجعت
(نمت) فيها أصابت رجلك. فقال له سلمان: نعم، هكذا فاصنع
جاء سعد بن أبي وقاص يعود سلمان في مرضه، فبكى سلمان، فقال سعد ما يبكيك
يا أبا عبد الله ؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض. فأجاب سلمان والله ما
أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله عهد إلينا عهدا،
فقال ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ؛ وهأنذا حولي هذه الأساود !
فنظر سعد فلم ير إلا جفنة ومطهرة، فقال سعد: يا أبا عبد الله اعهد إلينا
بعهد نأخذه عنك فقال: يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا
حكمت، وعند يدك إذا قسمت
كان سلمان يملك
شيئا يحرص عليه كثيرا، ائتمن زوجته عليه، وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه
ناداها هلمي خبيك الذي استخبأتك فجاءت بها فإذا هي صرة مسك أصابها يوم فتح
جلولاء، احتفظ بها لتكون عطره يوم مماته، ثم دعا بقدح ماء نثر به المسك
وقال لزوجته انضحيه حولي، فإنه يحضرني الآن خلق من خلق الله، لايأكلون
الطعام وإنما يحبون الطيب فلما فعلت قال لها اجفئي علي الباب وانزلي ففعلت
ما أمر، وبعد حين عادت فإذا روحه المباركة قد فارقت جسده، وكان ذلك في
عهد عثمان بن عفان.